سيدنا سليمان عليه السلام

لا يمكن أن يوصف استقرار سيدنا سليمان عليه السلام بفلسطين بأنه مرور بها، إذ العلاقة بينه وبين هذه البلاد أعمق من ذلك بكثير، وذلك لما شهدته هذه البلاد من سيدنا سليمان عليه السلام من عطاءات ومواقف حياتية استمرت عشرات السنين.

وهناك علاقة معجزات سيدنا سليمان التي قصها القرآن الكريم، وبين هذه البلاد الممتلئة بالأشجار والطيور والخيرات الدنيوية؛ فهو قد آتاه الله ملك الأرض بأكملها، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه الملك، وعلمه منطق الطير والحيوانات والحشرات والأشجار، وسخر له الرياح تجري بأمره، وسخر له الجن تأتمر بأمره، فكان له جيشٌ من الجن والإنس والطير؛ وهذا يوضح مكانة دولة فلسطين آنذاك من ناحية، ويوضح العلاقة بين معجزاته والواقع المحيط به في فلسطين من ناحية أخرى.

وقد اختص الله سبحانه وتعالى سليمان عليه السلام بولاية المسجد الأقصى؛ فبعد أن أورثه الله ملك سيدنا داود، قام عليه السلام بتشييد المدينة المقدسة على أفخر طراز في هذا الوقت، وقام إلى المسجد الأقصى وكان قد أوصاه والده نبي الله داود قبل موته بتجديد المسجد الأقصى وتشييده، فأعاد بناءه وعمل فيه عملًا لا يوصف ولا يبلغ كنهه أحد؛ فقد زينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان، فلم يُرَ مثله ولم يعمل يومئذٍ على ظهر الأرض بناء هو أعظم ولا أفخم منه، ولما فرغ من تجديده وتشييده قام إلى الصخرة وسأل الله تعالى ثلاثة أمور: أولها: أن يعطيه حكمًا يصادف حكمه، ثانيها: أن يعطيه ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وثالثها: أن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فقد أخرج النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وألَّا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة».

فيظهر أن ارتباط اسمه عليه السلام ببيت المقدس ومدينة القدس لم يكن لشيء قليل، إنما لأنه انغمس في حب هذه البلاد العظيمة المغطاة بالأنوار الإلهية، وقد كان نبي الله سليمان عليه السلام يختلي بنفسه في بيت المقدس بالشهر والشهرين، بل والسنة والسنتين؛ يُدخِل طعامه وشرابه ولا يخرج منه؛ ففيها عبد الله، وعلى أرضها آتاه الله الملك، وعلمه منطق الطير، وسخر له الرياح تجري بأمره، وأنعم عليه بجيش من الجن يحارب معه ويأتمر بأمره، وأنعم عليه بولاية مسجده، فكان مفتاح صخرة بيت المقدس عنده. كل هذا كان له الأثر العظيم في علاقته بهذه البلاد المقدسة.

وإنه قد عاش على أرضها قرابة اثنين وخمسين عامًا، وزادها تشريفًا وتقديسًا وتكريمًا على تكريمها أنه عليه السلام مات ودُفن بها، وقد مات عليه السلام وهو يصلي متكأ على عصاته في محرابه ولم يعلم أحدٌ بموته إلا بعد أن مرَّ على موته عامٌ.

فنبي الله سليمان من العلامات الفارقة في تاريخ فلسطين عبر القرون، ومن الأشياء التي كان مرورها رافدًا من روافد الحضارة التاريخية والروحية، والتي صارت هذه الحضارة بعد ذلك من أهم المعالم الإسلامية المشهورة التي يقصدها المسلمون من أرجاء العالم، فمن هذه المعالم: قبة النبي سليمان، وتقع داخل المسجد الأقصى من الجهة الشمالية، وأحد أبواب هذه المدينة، ويُسمَّى: بباب سليمان.

المراجع:

  • تاريخ دمشق، لابن عساكر، 22/ 293، ط. دار الفكر.
  • البداية والنهاية، لابن كثير، 2/ 31، ط. دار الفكر.
  • تاريخ بيت المقدس، لابن الجوزي، ص: 74، ط. مكتبة الثقافة الدينية.
  • البدء والتاريخ، لمطهر بن طاهر المقدسي، 4/ 88، ط. مكتبة الثقافة الدينية.
  • مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي، 2/ 193، ط. دار الرسالة العالمية.