سيدنا داود عليه السلام

من الأنبياء الذين ازدادت بهم فلسطين الغالية بركةً وفضلًا وقداسة نبي الله سيدنا داود عليه السلام؛ لأنه من أكابر الأنبياء وأشهرهم، وهو من نسل الخليل عليه السلام، وقد اختصه الله تعالى بجملة من الخصائص، منها: أنه تعالى ورَّثه ملك طالوت، وآتاه الزبور، وتفضل عليه بالحكمة وفصل الخطاب، وعلمه صنعة الحديد وألانه له، وسخر له الجبال والطير بالتسبيح معه، وجعله خليفته في أرض بيت المقدس التي ولد وعاش فيها على أرجح الأقوال.

ومن أكثر الأنبياء أثرًا في هذه البلاد المطهرة هو سيدنا داود عليه السلام؛ لأنه أسس في مدينة القدس مملكةً عظيمة قائمة على توحيد الله، وجعل فيها المعبد الذي أقيم المسجد الأقصى على طرفٍ منه، وهذا بعد أن قتلَ جالوتَ وآل إليه ملك طالوت؛ قال تعالى ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [البقرة: 251]؛ فجمع الله له فيها بين "الملك" الذي كان بيد طالوت، "والحكمة" أي: النبوة، ولكن داود عليه السلام توفاه الله قبل أن يتم بناء ذلك المعبد، وأتمه من بعده ولدُه نبي الله سليمان عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم.

ومما يُروى أن سيدنا داود عليه السلام هو الذي شرع في تأسيس المسجد الأقصى، وأن الله قد توفاه قبل أن يتمم البناء، وأنه قد أوصى إلى ولده سليمان بأن يتمه. ويرى بعضهم أن داود عليه السلام لم يبن المسجد الأقصى ولم يشرع في بنائه، ولكنه حدد المكان الذي سيُبنى فيه؛ وذلك حينما أصاب القوم في زمانه طاعون جارف، فخرج بهم عليه الصلاة والسلام إلى موضع بيت المقدس، يُقال: إنه كان يرى الملائكة تعرج من هذا المكان إلى السماء، فلهذا قصدوه ليدعو الله فيه أن يرفع الله عنهم ذلك الطاعون الجارف، فلما وقف عليه السلام موضعَ الصخرة رفع يده إلى الله تعالى وسأله أن يكشف عنهم هذا الطاعون، فاستجاب الله تعالى له، ورفع عنهم الطاعون، فاتخذوا ذلك الموضع الطاهر مسجدًا، وهذه من العجائب التي كانت لنبي الله داود عند المسجد الأقصى.

وعاش نبيُّ الله داود عليه السلام على أرض فلسطين، واستوطن مدينةَ القدس منها، ويروى أن ملك الموت أتاه وهو نازل من محرابه، فلما علم أنه قد أتى ليقبض روحه، خرَّ ساجدًا لله، فقُبِض وهو على ذلك، ودفن بالكنيسة المعروفة بالجسمانية شرقي بيت المقدس في الوادي، وهذا مما يزيد مدينة القدس شرفًا ورفعة على شرفها ورفعتها.

ولـمَّا كانت مكانة سيدنا داود عليه السلام بارزةً بين الأنبياء وتحدث عنه القرآن الكريم في مواضع، كانت آثاره في هذه البلاد العريقة من المعالم المشهورة، والتي اهتم بها المسلمون جيلًا بعد جيل، ومنها: محراب داود عليه السلام، والمعروف اليوم بمقام داود، وهو كما قال أبو شامة المقدسي: مثابة الصالحين ومزار الغادين والرائحين، ومنها كذلك: أحد أبواب تلك المدينة والذي يُسمى بـ"باب داود"، وهو من الأبواب الحصينة المنيعة لتلك المدينة قديمًا، يقع في السور الجنوبي للمدينة المباركة، في الواجهة الغربية من ساحة المسجد الأقصى المبارك، ويُعَدُّ من الأبواب الرئيسة التي تؤدي إليه.

فمن هذا كله يظهر أن هناك علاقة وطيدة وصلة روحية ظاهرة البركة بين نبي الله داود عليه السلام وبين مدينة القدس المباركة.

المراجع:

  • البداية والنهاية، لابن كثير،12/ 398، ط. دار إحياء التراث العربي.
  • قصص الأنبياء، لابن كثير، 2/ 265، ط. دار التأليف.
  • البستان الجامع لجميع تواريخ أهل الزمان، لعماد الدين الكاتب، ص: 72، ط. المكتبة العصرية.
  • الكامل في التاريخ، لابن الأثير، 1/ 198، ط. دار الكتاب العربي.
  • مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، لسبط ابن الجوزي، 2/ 180، ط. دار الرسالة العالمية.
  • البدء والتاريخ، لمطهر بن طاهر المقدسي، 4/ 88، ط. مكتبة الثقافة الدينية.
  • الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة المقدسي، 3/ 400، ط. مؤسسة الرسالة.