فتح نبي الله يوشع بن نون لبيت المقدس

ليس من الغريب على بيت المقدس أن يغتصبه الغاصبون وأن يعتدي عليه المعتدون، فمن الذين فتحوا بيت المقدس وحرروه من أيدي الغاصبين الجبارين: نبيُّ الله يوشع بن نون المتصل نسبه بنبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن الخليل إبراهيم عليه السلام، فتى موسى، وأحد تلاميذه، ووارث نبوة بني إسرائيل من بعده عليهم جميعًا السلام، وهو المراد بالفتى في قصة سيدنا موسى والخضر، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: 60]، وقد ورد في "صحيح البخاري" أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الفتى هو: نبي الله يوشع بن نون الذي صحب موسى في قصة ذهابه إلى الخضر عليهم جميعًا السلام.

وإنه لما كان زمن سيدنا موسى وهارون عليهما السلام أمر سيدنا موسى قومه بعد أن أنجاهم الله من فرعون بمصر وأغرقه هو وقومه، أن يدخلوا معه الأرض المقدسة التي هي: بيت المقدس، ويحاربوا من فيها من المعتدين -وكانوا من العمالقة الجبارين- ويُخرجوهم منها، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا، وقالوا لنبي الله موسى: لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها؛ فدعا عليهم سيدنا موسى، فعاقبهم الله تعالى بأن يتيهوا في الأرض مدة أربعين عامًا لا يهتدون إلى الخروج منه، وأن لا يدخلوا الأرض المقدسة في تلك المدة، كما ورد في الآيات (21- 26) من سورة المائدة.

ولما انقضت مدة الأربعين عامًا التي توعدهم الله أن يتيهوا فيها في الأرض، عقابًا لهم على رفضهم دخول بيت المقدس وفتحه، وقد مات كل من جاوز العشرين عامًا ممن دخل التِّيه، ومات سيدنا هارون، ومات بعده بعامين أو ثلاثة أخوه موسى عليه السلام، وأقيم فيهم يوشع بن نون نبيًّا، خليفة عن سيدنا موسى، وخرج سيدنا يوشع بن نون ومن بقي معه من التِّيه، وأمره الله أن يبلغ قومه أن عليهم أن  يدخلوا بيت المقدس ويحاربوا هؤلاء العماليق؛ فخرج هو ومن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني قاصدًا بيت المقدس؛ لقتالهم وتحريره من أيديهم، فقاموا بحصارهم، ثم اقتحموا المدينة عليهم وقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكان من شدة قوة هؤلاء الجبارين أن العصابة من جند نبي الله يوشع تجتمع على عنق رجل منهم يضربونها لا يستطيعون قطعها لشدة قوتهم، إلَّا أنهم لم ييأسوا ولم يستسلموا ولم يتركوا القتال مع نبي الله يوشع؛ فأعانهم الله على قتالهم، وجعل النصر حليفهم.

 ولما كان يوم الجمعة، الذي هو يوم الفتح العظيم، وقد أوشك على القضاء على العماليق الجبارين وهزيمتهم، وفتح تلك المدينة المقدسة، نظر نبي الله يوشع إلى الشمس فوجدها قد اقتربت على الغروب، فخشي دخول يوم السبت عليهم، وكان قد حرَّم الله عليهم القتالَ يوم السبت، فإذا حل يوم السبت عليهم لا يستطيعون قتالهم، فنظر إلى الشمس وقال لها: «إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي»؛ فحبس الله له الشمس حتى هزم العمالقة الجبارين وفتح بيت المقدس.

وإنَّ نبي الله يوشع بن نون كان أول من تُحبس له الشمس من الأنبياء، وقد حبست أيضًا لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الشمس لم تحبس على بشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس».

ولما فتح الله بيت المقدس لنبيه ومن معه وأظهرهم على المشركين أمرَ الله نبيه يوشع بن نون أن يبلغ قومه أن عليهم أن يدخلوا باب المدينة راكعين لله؛ شكرًا له تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر، ورد بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال، وأن عليهم أن يعترفوا بذنوبهم ويسألوا الله تعالى أن يغفرها لهم، ويحطها عنهم؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 58].

ومما يذكر في ذلك الفتح: أن نبي الله يوشع بن نون لما فتح الله على يديه تلك المدينة ودخلها وجد فيها من الأموال ما لم يُر مثله قط، فقاموا بجمعه وقربوه إلى النار فلم تأت، فقال لهم نبي الله يوشع: فيكم الغلول، فدعا رؤوس الأسباط، وهم اثنا عشر رجلًا فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القربان، فأتت النار فأكلته. وكان هذا تطييبًا لغنائمهم لكي تحلَّ لهم، فأحلها الله لهم لضعفهم وعجزهم.

المراجع:

  • صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري 6/ 91، ط. دار طوق النجاة.
  • تفسير ابن كثير، لأبي الفداء ابن كثير الدمشقي 1/ 274، وما بعدها، 3/80، ط. دار طيبة.
  • تفسير الطبري، لابن جرير الطبري 3/ 309، ط. دار هجر.
  • الروض الأنف، للسهيلي [ت: 581] 3/ 417، ط. دار إحياء التراث العربي.
  • قصص الأنبياء، لابن كثير 2/ 207- 209، ط. دار التأليف.
  • تاريخ الرسل والملوك؛ لابن جرير الطبري 1/ 435-440، ط. دار التراث.
  • البداية والنهاية، لابن كثير 1/ 376، وما بعدها، 6/ 87، 313، ط. دار إحياء التراث العربي.
  • الكامل في التاريخ، لابن الأثير 1/ 174، وما بعدها، ط. دار الكتاب العربي.