احتلال الصليبيين لبيت المقدس قرابة واحد وتسعين عامًا، وتحريره على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي

المحتويات

هذا الحدث التاريخي من أهم الأحداث التي شهدها بيت المقدس عبر القرون، ونتناول الحديثَ عن هذا الحدث من خلال نقطتين:

أولًا: احتلال الصليبيين لبيت المقدس، والدافع لهم إلى ذلك:

إن هذا الحدث التاريخي تكتمل رؤيته عندما ندرك أن السبب في جَعْلِ بيت المقدس محلًّا للأطماع من المعتدين ومحطًّا للأنظار من الغزاة المحاربين أن هذه بلاد القدس تتمتع بمزايا كثيرة وفضائل عديدة، فهي فوق ما لها من مزايا رُوحية عظيمة جلبت إليها من كثرة الأنبياء الذين عاشوا على أرضها ودفنوا تحت ترابها، فإنها قد حظيت بموقع جغرافي لم تحظَ به مدينة أخرى؛ لكونها تقع على هضبة فوق القمم الجبلية التي تعتبر السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية. وما نراه اليوم من الاعتداء على الأراضي الفلسطينية، ومحاولة احتلالها بتهجير أهلها منها ليس هو الأول من نوعه، فقد حدث لبيت المقدس حدثٌ قبله تاريخيًّا، وذلك في عام ٤٩٢هـ - ١٠٩٩م؛ حيث خضع للاحتلال من قبل الصليبيين، بعد حصار لم يدم وقتًا طويلًا، حيث استطاع الصليبيون فتح أبواب المدينة من الداخل، فتدفق الصليبيون داخلَ مدينة القدس، وقاموا بالاعتداء على أهلها المستوطنين المستضعفين، وارتكبوا بها مذبحة عظيمة قُتِل فيها أكثر سكان تلك المدينة، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بالإساءة إلى مقدسات المسلمين،  فقاموا بتحويل مسجد قبة الصخرة إلى كنيسة، وكذلك حولوا جزءًا من المسجد الأقصى أيضًا إلى كنيسة، والجزء الآخر منه إلى مسكن يسكن فيه محاربون "الداوية"، كما قاموا ببناء أبنية غربي المسجد الأقصى؛ لتكون سكنًا لهم، واستعملوا سراديب بيت المقدس مبيتًا لخيولهم،  وكذلك قاموا بتحويل بعض الآثار القديمة إلى قلاع تحميهم من الداخل، ولم يكتفوا بتلك الآثار القديمة التي حولوها إلى قلاع وحصون، بل قاموا ببناء حصون وقلاع جديدة باستخدام أسرى المسلمين؛ لضمان أمنهم وحمايتهم من بطش جند المسلمين، كل ذلك سبب لأهل مدينة القدس ضررًا ماديًّا ومعنويًّا، وقد استمر الاحتلال الصليبي لبيت المقدس يعتدي على المستضعفين، ويسيء إلى المقدسات قرابة التسعة عقود، لم يستطع أحد من المسلمين أن يقف في وجههم أو يحرر الأقصى من بين أيديهم.  

ثانيًا: تحرير السلطان صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس من يدي الاحتلال الصليبي:

استمرت مدينة القدس تحت يد الاحتلال الصليبي قرابة واحد وتسعين عامًا، لم يتمكن أحد من أن يحررها من أيديهم، حتى جاء القائد صلاح الدين الأيوبي -والذي قيضه الله تعالى لتحرير تلك الأراضي- في عام 583هـ - ١١٨٧م، فحررها من أيدي الصليبيين، وأعاد لها قدسيتها، وطهارتها بعد أن دنسها الصليبيون بأفعالهم.

إن السلطان صلاح الدين الأيوبي كانت عنده همة عالية ورغبة واضحة في تحرير بيت المقدس وتخليصه من أيادي المحتل الصليبي، وقد أعد لذلك الفتح العُدَّة، وقام بدراسة الأمر دراسةً جيدة بنظرة ثاقبة، ووضع الخطط المحكمة، مما يدلُّ على فطنة ذلك القائد، ورسوخ عقله، وبُعْدِ نظره، فلم يقصد بيت المقدس مباشرة، بل قام أولًا بفتح عدد من المدن المحيطة حوله، حتى يزيل من أمامه كل عقبة من الممكن أن تعترض طريقه للفتح، فقام بفتح الرملة والدَّاروم وغزة ومشهد إبراهيم الخليل عليه السلام ويُبنى وبيت لحم والنطرون، وكانت آخر المدن فتحًا قبل التوجه لفتح بيت المقدس هي مدينة عسقلان، التي كانت على طريق مصر، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة ٥٨٣هـ.

ومن الخطط أيضًا التي وضعها لفتح تلك المدينة المقدسة؛ ليزيد هذا الحدث نورًا بين صفحات التاريخ: أنه أراد أن يحاصر الصليبيين داخل مدينة القدس، وأراد ألا يصل إلى الصليبيين أية إمدادات عسكرية أو غير عسكرية، فقام بإرسال الأسطول المصري بقيادة الأمير حسام الدين لؤلؤ؛ ليُبحر إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط لرد أي سفينة تابعة للصليبيين تصل مِن أوروبا وحتى لا يتفاجأ بمن يأتيه من الخلف وهو يحاصر المدينة.

ومن الأمور التي قام بها استعدادًا لتلك الحرب، وخاصة أن الصليبيين كانوا محصنين المدينة تحصينًا منيعًا، أن قام بالطواف حول المدينة المقدسة خمسة أيام؛ لينظر الأماكن الضعيفة عندهم ليقوم بالهجوم منها، وبعد مرور خمسة أيام لم يجد موضعًا لابتداء قتالهم إلا من الجهة الشمالية من جهة باب العموم، فقام بحشد جنوده نحوها وأمرهم بنصب المجانيق، ثم أمر قادة جيشه بضربها، وبدأ في الجهوم الذي أعقبه النصر المبين والفتح العظيم لتلك المدينة المباركة.

ولما أتم الله للمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي فتحَ مدينة القدس، واسترجاع بيت المقدس، وطرد الصليبيين منه، أمر السلطان صلاح الدين الأيوبي المسلمين أن يُعيدوا الأبنية إلى حالها القديم التي كانت عليه قبل الاحتلال، وأمر بهدم ما بناه الصليبيون غرب المسجد الأقصى، وأمر بتطهير المسجد الأقصى والصخرة من الأقذار والأنجاس التي خلَّفها ذلك المحتل، ولما كان يوم الجمعة صلى المسلمون في بيت المقدس، وصلى معهم السلطان صلاح الدين الأيوبي، وصلى في قبة الصخرة، وخطب بهم وأمهم في الصلاة قاضي دمشق محيي الدين بن الزكي.

إن فتح صلاح الدين الأيوبي لهذه البقعة الطاهرة وتلك المدينة المباركة، كان حدثًا تاريخيًّا فريدًا بالنسبة لبيت المقدس، وقد اشتمل على مجموعة من الرسائل التي يحتاجها اليوم كلُّ مهتم بقضية بيت المقدس، ومن أهمها: المشورة في الرأي بين كل من يهمه الأمر، وعقد المجالس والاجتماعات الدائمة لذلك، والأخذ بوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم قتل الأطفال والنساء والشيوخ في الحرب، وعدم قطع الأشجار وتخريب الزرع أو البيوت، وحسن التعامل مع غير المسلمين والإحسان إليهم؛ بما يُبين الفارق بين تعاليم الإسلام وبين أخلاق أهل العدوان، ويظهر ذلك جليًّا في تنازل صلاح الدين الأيوبي عن نصيبه من الغنائم لفقراء المسيحيين، والعفو عن من كان بيده من الأسرى، وهذا هو عين ما فعله الفاروق عمر بن الخطاب في فتحه لبيت المقدس، ومنها: التمسك بالهدف، وهو تحرير بيت المقدس، والعمل الدائم المنظم الواضح على تحقيق هذا الهدف.

المراجع:

  • تفسير ابن كثير، 2/ 431، ط. دار المعرفة.
  • الكامل في التاريخ لابن الأثير،10/ 33 وما بعدها، ط. دار الكتاب العربي.
  • الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب، ص: 65 وما بعدها، ط. دار المنار.
  • كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، لأبي شامة المقدسي، 3/ 330 وما بعدها، ط. مؤسسة الرسالة.
  • مقدمة ابن خلدون، 5/ 360 وما بعدها، ط. دار الفكر.
  • موسوعة المدن والقرى الفلسطينية، لعدد من المؤلفين: أبو حجر، آمنه إبراهيم، 2/ 756، ط. دار أسامة.