الإمام ابن عوجان المالكي

لا ريب في أن بلاد القدس من أهم وأشهر البلاد التي انتشر فيها المذهب المالكي انتشارًا بالغًا؛ وذلك لما لها من مكانة سامية جليلة في قلوب المالكية وخاصة المغاربة منهم؛ حيث رحل إليها أكثرُ المغاربة وعاشوا بها وأخذوا العلم عن أئمتها وعلمائها، فقاموا بتدريس المذهب لطلابها، ومن بين هؤلاء العلماء: الإمام العالم العلامة الرباني قاضي القضاة: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علم الدين، أبو الربيع سليمان بن أحمد بن عمر بن عبد الرحمن العمري المالكي، المغربي الأصل، المقدسي النسبة، المشهور بابن عوجان المالكي، قاضي قضاة المالكية بالقدس.

ولد الإمام ابن عوجان المالكي عام: ثلاثة وستين وسبعمائة (763)، ونشأ في أسرة محبة للعلم والعلماء؛ فاشتغل رضي الله عنه منذ نعومة أظفاره بالعلم والمعرفة والتحصيل، فلازم مجالس العلماء والمفتين، وحادث الكبراء المثقفين حتى صار من أهل العلم والمعرفة الحاذقين، وخاصة بمذهب الإمام العظيم مالك بن أنس الحكيم.

ولما وجد في نفسه المعرفة الكاملة بمذهب الإمام مالك والتي تؤهله إلى إلقاء وتدريس ذلك المذهب على الراغبين من أهل العلم الطالبين، تصدَّر للتدريس والإفتاء في القدس باقي أيامَ دهره، حتى ذاع صيته، وراج علمه، فكان يقصده الناس والعلماء للزيارة؛ لعلمه وورعه وفقهه، حتى صار من كبار علماء المالكية الذين يُشار إليهم في القدس بالبنان، ولم تقف سيرته عند حدود القدس بل جاوز صيته حدود القدس آنذاك.

وبعد موت القاضي جمال الدين بن الشحاذة المالكي سنة: خمس وثمانمائة (805)، وجد أهلُ القدس فيه العلم الراسخ بمذهب المالكية، والمعرفة التامة بصناعة القضاء، فولوه قضاء المالكية بالقدس، فكان ثاني قاضي مالكي بالقدس المبارك، فجاءت أحكامه مرضيةً، وأموره مسددةً، فحسنت سيرته، وطالت مدة ولايته، كل ذلك أدى إلى انتشار المذهب المالكي انتشارًا واسعًا في القدس ومن حوله من البلاد.

وقد عاش الإمام ابن عوجان المالكي على أرض فلسطين، فوجد بها الأرض الخصبة لانتشار المذهب المالكي، فلم يتوان عن ذلك حتى وافته المنية في شهر جمادى الأولى، سنة: ثمان وثلاثين وثمانمائة، بالقدس المبارك، ودفن: بمقابر ماملا، وهي بظاهر القدس من جهة الغرب، وهي أكبر مقابر البلد، وفيها عدد كبير من الأعيان والعلماء والصالحين والشهداء، عليه من الله سحائب الرحمات والبركات.

ولم ينقطع بموته قضاءُ المالكية بالقدس، فقد خلَّف من بعده ولدَه الإمامَ الرباني قاضي القضاة: شمسَ الدين أبا عبد الله، الذي تولى قضاء المالكية بالقدس من بعده، وأخذ يُدرس المذهب مكانه.

وقد كان من سبط ذلك العالم المالكي الرباني: شيخُ الإسلام، والحبر الهمام، وأعجوبة زمانه: كمال الدين أبو المعالي محمد بن ناصر الدين بن محمد بن أبي بكر بن أبي شريف المقدسي مولدًا، الشافعي مذهبًا.

المراجع:

  • الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، للعليمي، 2/ 64، 247، ط. مكتبة دنديس.
  • الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، للإمام الحافظ السخاوي، 1/ 307، ط. دار مكتبة الحياة.
  • شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، 10/ 43، ط. دار ابن كثير.
  • الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة، لنجم الدين الغزي، 1/ 9ن ط. دار الكتب العلمية.