لمَّا كانت دولة فلسطين محلَّ اهتمامٍ من الملوك والولاة المسلمين عبر العصور، قاموا بتشييد المباني العمرانية الكبيرة، المُزيَّنة بالزخارف والفنون الجميلة، فأنشأوا العديدَ من المباني الأثرية، كالمساجد والزوايا والتَّكَايا وغير ذلك، ومن بين هذه المباني التاريخية العريقة: "الجامع العمري الكبير" الموجود بقطاع غزة، والذي يُعد جزءًا مهمًّا من تاريخ المدينة المباركة؛ لأن قطاع غزة له موقع جغرافي متميِّز؛ إذ هو يقع عند ملتقى قارتي آسيا وإفريقيا؛ ذلك الموقع الذي جعل لغزة أهميةً إستراتيجية وعسكرية فائقة، فتُعدُّ بمثابة الخط الأمامي للدفاع عن فلسطين، بل والشام جميعها جنوبًا.
وقد بدأت قصة المسجد العمري بعد الفتح الإسلامي للقدس في عهد أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيادة سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ حيث أُقيم "الجامع العمري الكبير"، والذي يقع في قرية أم طوبا جنوب مدينة القدس في حي الدرج بالبلدة القديمة وسط مدينة غزة، وحاليًّا في الطرف الشرقي من شارع عمر المختار، وتبلغ مساحته حوالي 4100 متر مربع، ومساحة فنائه 1190مترًا مربعًا، وقد كان الجامع العمري الكبير معبدًا في العصر الروماني ثم تحوَّل لكنيسة على يد القديس برفيريوس على نفقة الملكة أفذوكسيا، وبعد ما تمَّ فتح بيت المقدس ومدينة غزة في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه واعتنق أغلب سكان المدينة الدين الإسلامي، كان أول ما قدَّموه هم للمسلمين أنهم طالبوا بتحويل أكبر كنائس القطاع، لتصير "الجامع العمري الكبير"؛ أي: أن الناس الذين كانوا يتعبدون في هذه الكنيسة قبل الإسلام هم أنفسهم مَن طلبوا أن تكون هذه الكنيسة جامعًا، وقد تمت تسمية هذا المسجد ب "العُمَري" نسبةً إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه حدث في خلافته تلك الفتوحات العظيمة، والتي من بينها "فتح بيت المقدس" على يد الصحابي الجليل سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ويُعد "الجامع العمري الكبير" من أعظم وأجمل مساجد فلسطين المباركة على الإطلاق، ويظهر ذلك من إطلاق لفظ: "الكبير" عليه؛ فهو المسجد الكبير؛ لأنه ثالث أكبر مساجد فلسطين المباركة من حيث السعة بعد المسجد الأقصى المبارك، وجامع أحمد الجزار في عكة، وهذا المسجد قائمٌ على اثنين وأربعين عامودًا من الرخام، وأسطواناتٍ متينة البناء، وفي وسطه قُببٌ مرتفعة على عامود فوق عامود من الجانبين، ونظرًا لمتانته وجودَةِ إتقانه قلَّ أن يوجد له نظير، وقد أنشأ بابَه ومئذنتَه المباركة السلطانُ المملوكي "أبو الفتح لاجين المنصوري" سلطان المماليك سنة: [697ه/1281م]، وقام بتوسعته الناصرُ محمد بن قلاوون سنة: [٧٠٩-٧٤١ه/١٣١٠-١٣٤١م] بعد ذلك، وتم إعماره كذلك في العهد العثماني، وقد وصفه الرحَّالة ابن بطوطة بقوله: «وكان بها -أي غزة- مسجدٌ جامعٌ حسنٌ، وهو أنيق البناء، محكم الصنعة، ومنبره من الرخام الأبيض».
وكان "الجامع العمري الكبير" يشتمل على مكتبة كبيرة تنسب إلى الملك الظاهر بيبرس، وكانت تشتمل على نحو عشرين ألف كتاب والكثيرِ من المخطوطات النادرة في مختلف العلوم والفنون، وكانت مكتبةً ذاخرة بنفائس العلوم وذخائر القيم، وبقي أثر تلك المكتبة إلى الحرب العالمية الأولى، لكن زعم السلطان ابن قلاوون أنَّ وجودها بقرب المسجد يعكر على المصلين صفوهم، فهدمها وأعاد بناءها في مكانٍ قريب، وأطلق عليها "مدرسة قلاوون ومكتبته"، وظلَّت تلك المكتبة معمورةً وذاخرة بتلك العلوم حتى انتهى ملك السلطان قلاوون وولده الملك الناصر، ثم لما تولى الملك قايتباي أراد أن ينتقم للملك الظاهر بيبرس من قلاوون لكن بطانته منعوه وأشاروا عليه بإعادة اسم الظاهر بيبرس على تلك المكتبة.
ولا يزال الجامع العمري نشطًا حتى اليوم، يقصده المسلمون لأداء صلاة الجمعة والصلوات الأخرى، وينهل أهل العلم وطلابه من مكتبته الكثير والكثير من نفائس العلوم والحكمة.
ومما يجدر بنا ذكره أن مئذنة المسجد العمري الكبير والتي يعود تاريخ بنائها إلى 14 قرنًا من الزمن، قد تهدمت نتيجة الاعتداء الغاشم الذي شاهده العالم أجمع.
المراجع: