شهد الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم المسجدَ الأقصى باعتباره قبلةً يصلون إليها قبل أن تتحول القبلة إلى بيت الله الحرام، فلم تكن مقولة (أولى القبلتين) بالنسبة لهم حدثًا نقله تاريخ الإسلام إليهم، بل كان ذلك بالنسبة لهم واقعًا يعيشونه، ونسيمًا صافيًا يتنفسون وينهلون من هوائه الصافي.
كما أنَّ الصحابة رضي الله تعالى عنهم قد عاينوا معجزة الإسراء والمعراج التي كان المسجد الأقصى المبارك من أهم معالمها، وقد كان لهذه المعجزة وقْعٌ في قلوب جميع الناس آنذاك، مسلمين كانوا أو غير مسلمين؛ لما اشتملت عليه هذه المعجزة آيات ومواقفَ خارقة لعادة العقل البشري، بل ويصعب على العقل أن يتصورها أصلًا.
وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حدَّث الصحابةَ رضي الله عنهم عن فضائل هذا البيت المُكرم، وعن فضل الصلاة فيه، وعن درجاتها، وغير ذلك.
ويُضاف إلى ذلك: أن فتح هذا البيت بالنسبة للصحابة كانت أمنية يرجون تحقيقها، وهدفًا يرغبون في الوصول إليه، وبشرى من البشريات النبوية التي ظلوا ينتظرونها، ويعملون على تحقيقها، وقد حصل ذلك لهم بالفعل في عهد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه.
ومن هنا فقد اجتمعت الدوافع القوية التي تجعل الصحابة الكرام يتعلقون بهذه البلاد الكريمة، وترتبط قلوبهم بها، فإن مكانته في قلوبهم مُستمدةٌ من جوانب عديدة ومزايا كريمة؛ ولأجل ذلك فليس من العجيب أن نرى الصحابةَ الكرام تهفوا نفوسهم إليه، وتميل قلوبهم نحوه، وتسري أرواحهم تجاهه.
ومن أعظم هذه الدوافع إشارةُ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم بأن يعيشوا بفلسطين؛ فقد روى الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" عن ذي الأصابع -ثوبان بن يمرد- رضي الله عنه قَالَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ إِنِ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟، قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكُمْ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَيَرُوحُونَ»، ولهذا كان الصحابة الذين عاشوا بهذه الأرض الطيبة أكثر من الحصر؛ قال العلَّامة أبو مجير العُليمي رحمه الله: «وأما من دخل بيت المقدس من الصحابة رضي الله عنهم فهم خلقٌ كثيرٌ لا يُحصيهم إلا الله».
ولقد كان للصحابة الذين عاشوا ودُفنوا بفلسطين في اختيارهم هذا المكان موطنًا لهم في الحياة والممات، القدوةُ والأسوةُ في آبائهم من السادة الأنبياء الكرام -عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام- الذين عاشوا ودُفنوا على أرض فلسطين الحبيبة.
المراجع: